سمحة العافية.
ابتدرتني أم عطية بهذه الجملة الجميلة المعبرة، ووجهها بالفعل يشرق بنور العافية. قابلتها في مناسبة حفل صغير بمناسبة نجاح أحد أبنائنا المتفوقين واستعداده للسفر للسودان للالتحاق بالجامعة. وكعادتها تتوسط الشابات فقط ، لا تقبل أبدا الجلوس إلى من هم في سنها.
قلت لها ممازحا وناكشا قريحتها : النسوان قالن إنك ما بتحبي تقعدي معاهن.
قالت وهي تجول ببصرها حتى لا يسمعنها : ديل غير الفقر ما عندهن، بالله تقعد معاهن إن شاء الله يوم كامل، ما عندهن غير النقة طول اليوم. ما بتستفيد منهن شي طب. علا الفالحات ديل ، النصيحة كدى بستفيد منهن ومن سعالاتن الكتيرة.
قلت لها : طيب يا أم عطية، النسوان كمان أقعدي معاهن شوية.
قالت وهي تقطب ما بين حاجبيها : أنا ال بيشتكي لى من وجع راسو، أنا برضو بجيني زيو وجع راس، و ديل ما عندهن غير الشكية من المرض يا كافي البلا. دي رطوبة في الركب، و ديك خمة نفس ، و ديك ما بتنوم الليل. أنا مالي و مال العيادة دي. . لاكين شوف الوشوش السمحة دي، تذكرني بي شبابي الراح ، و يفتحن النفس ما شاء الله.
تقول هذا و هي تجضم هذه و تضرب تلك على ظهرها.
تمازحها إحدى الشابات : أم عطية صحي في راجل بيحبك ، مشى معاك السودان ورجع معاك الحجل بالرجل ؟
فإستشاطت أم عطية غضبا وقالت : حباهو برص إن شاء الله. و الله يا بتي أظن هو ذاتو بينقل الملاريا العامل زى إيد الفندق داك. أيام مرضي بالله واقف لي زى إبرة الدرب في الإيد ، كلما أشوفو الحمى تزيد على ، و لما ينضم ، وحاتكن كأنو البعوض قاعد ينوني فوق راسي.
تقول أخرى مستفزة إياها : لاكين قالوا أصلو ما شال إيدو من جبهتك من الخرطوم لغاية الرياض ، قالوا كان خايف عليك من الحمى.
قالت وهي تعدل من جلستها : الحمى يا يابا اليجسوها بالمقص ، بالله إيدو زى حجر الطاحونة ، تقيلة جنس تقل . هو الجاب لى وجع الراس الكعب داك.
وتتعالى ضحكات الفتيات، فتناوشها أخرى : لاكين يا أم عطية إنت وكت ما دايراهو يقرب منك ، ليه ما قلت ليهو يزح من جنبك بعيد؟
فقالت أم عطية بلهجة مؤكدة : يا بتي كواريكي من شدة وجع الراس خلت الركاب القاعدين جنبي يزحوا من جنبي لي آخر الطيارة. لاكين بالله الغتيت دة لاصق فيني زى القراصة اللاصقة في قعر الدوكة الكعبة.
يقول أبنها كالعادة وهو يضحك : عندما أتينا بها من الخرطوم بعد مرضها بالملاريا ، أخذناها صباح اليوم التالي للمستشفى ، وفي الطريق استوقفتنا دورية الشرطة في أكثر من محل للتفتيش ، فتضايقت من كثرة الوقوف وهي لا تزال تعاني من آثار الحمى والصداع، وتستعجلني متنرفزة للوصول للمستشفى، وعند إحدى نقاط التفتيش ، أخرجت رأسها من شباك السيارة ونادت على العسكري السعودي بأعلى صوتها:
هوى يا جنا ، البلد الحاصل فيها شنو ؟ لعل ما عندكم إنقلاب ؟
ثم أدخلت رأسها و قالت لإبنها : عطية ، الظاهر في إنقلاب ، الحمد لله يا ولدي ، كفيلك السجمان داك أريتو يموت في نص الجوطة دي، إن شاء الله تعفصو دبابة ولا يهرسو قندران الجيش.
ثم تخرج رأسها مرة أخرى وتخاطب العسكري الواقف بين مندهش وحائر :
إنقلابكم دة الفي نصة نهار دة بذكرني إنقلاب الشيوعيين علي نميري. أنتو تتجازوا يا يابا ، أي حاجة تقلدونا فيها.
فقال العسكري : ويش قلت يا حجية ؟ إنت ويش تبغين ؟
فقالت وكأنها لم تسمع سؤاله : والله إنقلابكم دة ما ينجح بي جنس تفتيشكم دة، ظباطنا هناك ظباط السرور، إنقلاباتم منجضة ومستفة يا يمة. بالله إنتو هيبة العساكر ما عندكم، بالله هسع بي كروشكم الماكنة دي بتقدروا تسكوا ليكم زول كان قام جاري؟ أنا جاية من السودان وعندي ملاريا وحمى، كلم العساكر ديل يزحوا لينا عشان نصل بي سرعة يا عشاى قبال ما تسووا حظر التجول.
يقول عطية، وهو يغالب ضحكه: تملكني خوف وذعر شديدين، فالوقت لا يسمح بهذا حتى على سبيل المزاح، طلبت منها السكوت وأنا أتصبب عرقا ومتوقعا أن يطلبوا منا النزول من السيارة في أي لحظة، ولكنها واصلت كلامها مع العسكري بطريقة يبدو أن آثار الحمى ما زالت تتحكم فيها، و لحسن الحظ لم يفهم منها العسكري كلمة واحدة وهو ينظر إليها باستغراب .
قال لي العسكري : ويش فيها الحجية ؟
قلت : معليش يا طويل العمر، أصل الوالدة تعبانة شوية و موديها الدكتور.
قلت لعطية : أظنك طول اليوم تضحك من عمايل الوالدة في البيت و برة البيت.
قال : الغريبة لما تكون معي لا أستطيع الضحك، فأنا أراقبها وهي تتصرف أحيانا بحكمة وأحيانا ببراءة وأحيانا أخرى بطيش شباب ، ولكن عندما أقابلك و أحكي لك، أضحك وأنا أسترجع حكاويها.
زولنا الذي ذهب معها للسودان ورجع معها بالصدفة ، تسميه أم عطية ( نص متر ) وأحيانا يد الفندق. فاجأ الجميع بأن حضر ومعه كمية من شوكولاتة إسنكرز التي تعشقها أم عطية ومعها علبة حلاوة ماكنتوش ضخمة وكمية من الآيس كريم.
يقول إبنها وهو يهتز من الضحك : ما أن دخل الرجل وسلم عليها حتى طنطنت أمي وقالت من بين أسنانها : سيد الملاريا جانا ، يا سيد الحسن أبو جلابية .
وما أن علمت أنه أتى بأشياء محببة إليها، حتى أخذتها بين يديها و هرولت إليه وهو بالصالون ، وقالت وسط دهشتي و دهشة زوجتي :
إنت يا راجل ماتقول لي إنت داير شنو بالظبط ؟ بس بالأول قول لي ، منو القال ليك أنا بحب جنس الحاجات دي ؟ و الله كان ما قلت لي ما أخليك.
يقول عطية : حاولت تهدئتها ولكنها كانت في حالة من الهياج جعلتني ألوذ بالصمت.
فقال الرجل وهو يغوص في الكرسي :
إنتي بتحبي الحاجات ، و أنا عارف و الناس كلها عارفة.
قالت أم عطية وهي تضع حاجياته أمامه : تصدق و تآمن بالله ، أنا من الليلة بغير الصنف. و زول يعرف تاني مافي. خسوسا إنت.
وقالت وهي تخرج منطلقة كالعاصفة : حركات عجايز آخر الزمن.
***
نتابع في الجزء الرابع
<p>
0 |
0 |
56