الإجازة الصيفية تلفظ آخر أنفاسها ومُمنياً نفسي بونسة أو ونستين معها قبل زحمة المدارس، ذهبت إليها وفي خاطري عدة مواضيع تصلح لفتح باب الونسة، إلا أنها فاجأتني قائلة :
خسّمتك بالنبي يا حشاى كان ما مشيت معانا. و الله و نستك ما بستغنى عنها، الله يرضى عليك.
تريدني أن أصحبها في سفرها لأداء العمرة، و ( أفرفر ) ذاكرتها بمناكفتي لها، بعكس إبنها الذي يضحك من تصرفاتها وينتقدها كلما ( لبّخت ) أو خرجتْ عن المألوف.
أم عطية عندما تصر على شيء وتلح عليه، لا يسعك إلا أن ترضخ، فبالرغم من (عمايل) الزمن في وجهها الصبوح، إلا أن تقاطيعه تجبرك على الإستجابة لطلباتها، فعلى محياها ترتسم طيبة لا نهائية وكمية من الحنان والشفقة تجبر أيا من كان على الاستجابة لتوسلاتها التي تتبعها بدعوات تجعلك تردد دون وعى : آمين يا رب العالمين ...
فما بالكم أنها تطلب مني مرافقتها لجدة نظرا لمشغولية إبنها، حيث ينتظرها حفيدها هناك لمرافقتها لأداء مناسك العمرة.
ليلة السفر، إجتمعت الأسرة والأقارب و الجيران، وكعادتها، تتوسط حلبة الونسة بروح معنوية عالية، وهي تلتهم عشقها الأزلي الإسنكرز بنهم.
قلت لها ممازحا : ما تنسي تشيلي معاكي كمية يا حاجة عشان السكة.
فقالت وهي تضحك ضحكتها المبحوحة : أكان نسيت البظبورت ما بنسى الشكولاتة، إن شاء الله عاد السووها لينا يخدر أيديهم و يكتر حليبهم.
قلت لها : أحسن الشكولاتة ولا السفة ؟
قالت بتأكيد : السفة بتعدل النافوخ، و الشكولاتة بتلولي روحي زى لولاى الأم لي جناها، بعد آكل لى صباع صباعين، أغمض عويناتي و إتذكر أيام كنا صغار لما ناكل الحمبك و الدفيق و نتكيف.
يبدو أن الشكولاتة تدغدغ أحاسيسها الدفينة وتعود بالطفل الغائص في وجدانها، فتتشبث بها تماما كصورة تذكارية تتراقص ذكريات صاحبها أمامك أو كطعم قديم تذوقته فيعاودك الحنين إليه بطعم جديد يتغلغل في مسام لسانك ليوقظ ذكرى ذلكم الطعم القديم.
أم عطية لسبب أو آخر، أصرت على الذهاب بالبر على حافلات النقل الجماعي، و لم تنفع توسلاتي لها بالذهاب جوا، وقالت وهي تدس سفة ماكنة في فمها وتضرب كفا بكف لتنظيف يدها :
السفر بالبر فيه أجر كتير، عليك الله كان ما قبلت بالسفر بالبر.
تحركنا بحمد الله ليلة الخميس، قبل منتصف الليل، جلست أم عطية أولا على الكرسي بالقرب من الممر وجلست أنا بالقرب من الشباك .
و عد أن غاص كل منا في متاهاته الخاصة، انتبهت إليها و قلت لها :
أم عطية ، عاوز أسألك سؤال ممكن ؟
قالت : أسعل يا حشاى ، أنا كان ما جاوبتك أجاوب على منو ؟
قلت لها : حسع بالذمة ، مرات كدي بتتذكري أبو عطية ؟
قالت بعد تنهيدة قصيرة وهي تسرح ببصرها بعيدا عبر النافذة : بتذكرو في حاجات كدي بس. يعني حاجات كدي
قلت مناكفا : زى شنو ؟
قالت : يا جنا ما تزرزرني كدي ، قول بسم الله
قلت بإلحاح : يعني حاجات زى شنو ؟
مادام ما عندك ونسة غير الموضوع دة ، أها أنقول ليك ، بتذكرو لما ولدت أول بت ، و الله جا فرحان ، و الزمن داك البيجيبو ليهو بت ، بالله زى الجابو ليهو خبر جنازة ، لاكين هو و الله يشهد ، فرح فرحة شديدة و ضبح ليها السماية خروفين زيها زى الصبيان. أها و بتذكرو أيام عرس البنات و عرس عطية و يوم ما بقيت أنا حبوبة و هو جد. أها حاجات زى دي يا ولدي.
نظرت إليها ، فوجدت مشروع دمعات على مآقيها ، فغيرت مجرى الحديث قبل أن تتحول رحلتنا إلى تراجيديا ، و قلت لها : أيام عرسك ما بتتذكريها ؟
قالت و هي تلكزني بكوعها : إنت الموضوع دة كان ما جبت سيرتو ما بتترتاح. ها يا يابا أيام عرسنا هي بقولو عليها أيام عرس ؟ حليلنا نحن الما شفنا الشيلة أم الدست و الربط. عليك أمان الله جابو لينا شنطة اللت حديد مصدية فيها توب و فركة و حتتين قماش و فتيلين اللات ريحة واحدة بت السودان و التانية فرير دمور و شبشب أبو سيرين و سفنجة القمر بوبا. يا ها دي الشيلة ، و جونا شايلنها فوق حمار.
قالت و هي تضحك : و العجب و كت وصل الحمار ، النسوان زغردن ، تزغردن فوق شنو يا السجمانات الرمدانات ؟ أمال لو الشيلة كانت جاتكن من جدة و بي بوكسي لي خشم الباب كنتن حتسون شنو ؟
ثم واصلت و هي تدفن بقايا سفة في منديل ورقي : حليلنا نحن من قعاد الكوشة و فستان الزفاف. أنا ما زعلانة علا على عدم لبسي لفستان الزفاف و قعدة الكوشة. زينة ساكت ، ما شاء الله و تبارك الله العروس تجيك تقدل زى الملايكة النبي فوقا ، أبيض في أبيض ، و الوشي يلالي زى قمر أربعطاشر.
قلت لها : طيب يا أم عطية برضو إنتو زمان بيسوو ليكن الدلكة و الزيت وبرضو العروس يعني كانو بيدلعوها و يلمعوها.
قالت تقاطعني : ها يا يابا ، شن الفايدة ، الواحدة يقعدوا يفركوا فيها شهر في بطن البيت ، برضو ما بتحصل عروس الزمن دة. زمان رجولنا من القشف و كترة الخدمة زى ضهر التمساح ، الواحدة يغطسو رجولا في الزيت ضحوية كاملة ، برضو الرجلين تلقاهن يابسات.
ثم تواصل : و العاجبني في عرس الزمن دة ، العريس و العروس يقعدوا وسط خلايق الله فرحانين و يرقصوا و يبشروا للصباح ، و بعد الحفلة العريس يطبقا في إيدو و يمشوا على الجهة الدايرنها ولا يسافرو برة ، تعال شوفنا نحن يا حليلنا و حليل شبابنا، الواحدة مغطية بي فركة قبل العرس وأيام العرس لغاية ما تنسى شكل الناس ، و الأكل برضو جوة الخيمة دي ، والبيجيبوهو كلو ناكلو بدون إحتجاج ، نسكت نسفسف ، شهر قبال العرس وشهرين بعد العرس في أوضة واحدة ، أتقول معسكر خدمة إلزامية. الواحدة تخش عروس و تمرق أول زيارة تزور الداية.
ضحكتُ ، فلكزتني بكوعها مرة ثانية و قالت : صحي و الله ، أنا الشهر التالت جروا بي للداية بتوحم و طراشي سابقني السكة كلها. بري بري يا جنا ، والله معسكر مقفول يا حشاى ما هو عرس.
ثم قالت فجأة :
تعال بي هني يا جنا ، خليني أتفرج شوية من الشباك.
قلت لها هامسا : مافي حاجة يتفرجوا عليها يا حاجة.
وقامت من كرسيها و كأنها لم تسمع كلامي ، فقمت لها و جلست هي في مكاني ، ثم قالت بصوت عال قطع الصمت المطبق على ركاب الحافلة :
بسم الله ، بالله البلد كلها خلا ، شدرة خدرا مافيها. ناشفة زى ناسا
فلكزتها حتى لا تفتح علينا فتحة والحافلة نصفها سعوديين من الرياض ، فقالت : بتلكزني مالك ؟ كلامي غلط ، بالله البلد حجارة و أسفلت يا كافي البلا. حليل بلدنا الطيبة ، تتفرج من كل الجهات على الجناين و الشدر والبيوت و الناس يأشروا ليك كأنهم بعرفوك. بري يايابا. صحي يا جنا البلد دي الرسول ما زارا عشان كعوبية ناسا؟
أحرجت إحراجا شديدا. فأمامها مباشرة فتاة سعودية و أمامي و خلفي عوائل سعودية و لا بد أن من بينهم من يكون من أهل الرياض.
وإنتظرت بدء معركة كلامية في أي وقت.
وبالفعل ، إلتفتت إليها الفتاة التي أمامها ، و قالت لأم عطية : يا حجية ، لو بلدك حلوة ليه خليتيها و جيتي عندنا ؟
فقالت أم عطية بتحفز : وحاة اللمانا في الباظ دة من غير ميعاد يا بنية ، لو ما مكة و المدينة زول يقبل عليكم مافي.
يبدو أن الحكاية جاطت و باظت.
قالت الفتاة و يبدو لحسن الحظ أنها متعلمة و تريد فقط مناكفة أم عطية : إنتي ما شفتي جدة ؟ حلوة جدا ، أحلى من الخرطوم بتاعتكم.
قالت أم عطية و هي تستجيب للمشاكسة : هووووووى ، الخرطوم دي لو ما بهدلوها ناس السياسة ، كانت حسع زى أمريكا. إنتي ما سمعتي الناس زمان بيقولوا شن معدوم في سوق الخرتوم ؟ كفاية النيل و الشجر ، و الخريف السمح. أنا فاتني الخريف السنة دي ، قالوا الهمبريب بي هناك يرد الروح
قالت الفتاة و هي تداري ضحكة : إيش الهمبريب ؟
فقالت أم عطية و يبدو عليها أنها إرتاحت لها : ما بتعرفيهو ، الهمبريب دة بشبه الهوا البمرق من المكيف.
طلبت منها الفتاة أن تأتي و تجلس بقربها و كأنها حصلت على كنز ، فقام شقيقها المرافق لها و جلس بقربي و إنتقلت أم عطية بقرب الفتاة ، ، فأسندت جبهتي على الكرسي الذي أمامي حتى لا تفوتني شاردة أو واردة من حديثهما
أتى طفل في عمر السابعة ، و وقف أمام أم عطية محدقا في شلخاتها طويلا ، ثم صرخ في وجهها : آآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآي
فهبت أم عطية واقفة : قديت أضاني يا مصخوط
و ركز الركاب حولنا إنتباههم على منطقتنا و هم يضحكون من هجمة الطفل، فالكل يريد أن يقتل الوقت بأي شيْ.
ثم سأل الصبي أم عطية سؤالا لم يكن في الحسبان : يا حجية ، إنت حنكوشة؟
ضج الركاب السودانيين بالضحك لسؤال الصبي ، الذي أمسكت به أم عطية من يده و قالت له : هاك يا جنا الشوكولاتة دي ، بس قول لى منو القال ليك الكلمة دي ؟ دي كلمة بيقولوها أولادنا بس.
فأخذ الطفل الشكولاتة و قال لها بكل براءة : أسمعها من نزار جارنا السوداني.
فقالت له أم عطية و هي تضحك ضحكتها التي تصاحبها كحة : أنا حنكوشة ؟ يا هو الفضل و الله ،،، طيب ما قال ليك معناتا شنو ؟
قال : لا ، بس أسمع بيقولها لأخوى الكبير لما يسولفون مع بعض.
وإنطلقت من هنا و هناك عبر ممر الحافلة أصوات الأطفال السعوديين : آآآآآيي .. عليك الله ... يا زول آآآآآآآييي
فقالت أم عطية : بسم الله ، ديل مالم قاموا يكوركو زى ضفادع الخريف وسط القش؟
طوال الرحلة ، لم يفارقها الأطفال و هم يرددون : حجية ، آآآآآي، فتغدق عليهم عشقها الشكولاتي و حلو كلامها الذي أراهن أنهم لم يكونوا يستوعبون معظمه ، و الفتاة السعودية و تقوم بخدمتها و هي مسرورة كأنها تعرفها منذ زمن بعيد ، بالرغم من أن أم عطية كانت طوال الرحلة تنتقد كل شيء أمامها و تسخر منه . إنه سحر أم عطية التي تعيش عصرا كانت تتمنى أن تكون فيه في بدايات شبابها ، لذا إنغمستْ في محاولة للتعايش مع إيقاع الزمن و الذي إستطاعت لحد ما أن تضبط خطواتها البطيئة مع إيقاعه الأسرع ...
***
يُسْتَتْبَع